يبلغ عدد البشر الذين يعانون من مرض الاكتئاب في العالم أكثر من 300 مليون إنسان، أو ما يعادل 4.4% من عدد سكان العالم، وذلك حسب إحصاءات منظمة الصحة العالمية (WHO) المنشورة مؤخرا.
وبحلول عام 2030، من المتوقع أن يتفوق الاكتئاب والأمراض العقلية على أمراض القلب، لتصبح أكبر مصدر للقلق الصحي في العالم. ومن أهم عوامل زيادة هذه الأمراض: المشاكل الاقتصادية مثل الديون والبطالة، والاجتماعية مثل العنف المنزلي وضغوط العيش في المدن، إضافة إلى الحروب والتدهور البيئي والكوارث.
وسيلعب تغير التركيبة السكانية دورا أيضا، خاصة فيما يتعلق بالعمر. فبحسب منظمة الصحة العالمية، ستتضاعف نسبة البشر الذي يبلغون من العمر 60 عاما وأكثر إلى ملياري شخص عام 2050، وسيعاني نحو 20% من هؤلاء من أمراض الخرف وألزهايمر وباركنسون وغيرها.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما الدور الذي يمكن أن تقوم به التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي وكل مخرجات الثورة الصناعية الرابعة، لمعالجة هذه المشكلة الآخذة في الاتساع يوما بعد يوم؟
تكنولوجيا جديدة مستوحاة من ألعاب الفيديو
في إجابة أولية عن هذا السؤال، طور علماء في العاصمة البريطانية لندن تقنية ذكاء اصطناعي جديدة مستوحاة من ألعاب الفيديو، لتغيير طريقة تشخيص مرض الاكتئاب ومراقبته بشكل دقيق. وتُجرى حاليا تجربة المنصة التي تسمى “ثيميا” (Thymia) من قبل المرضى والأطباء، بهدف جعل الاكتئاب وحالات الصحة العقلية الأخرى قابلة للقياس مثلها مثل الأمراض الجسدية الأخرى.
وابتكر هذه التقنية كل من عالمة الأعصاب الدكتورة إميليا موليمباكيس، وعالم الفيزياء النظرية الدكتور ستيفانو جوريا، حيث ستتخلص “ثيميا” من طرق التشخيص السابقة. فبدلا من الإجابة عن الاستبانات في الطرق التقليدية للرقابة والتشخيص، سيلعب المرضى ألعاب فيديو على المنصة تستخدم علم النفس العصبي واللغويات والتعلم الآلي، للكشف المبكر عن علامات الاكتئاب، فضلاً عن مراقبة ما إذا كان المرضى يستجيبون للعلاج، وذلك كما ذكر موقع “ميد تيك نيوز” (med-technews) في تقرير له مؤخرا.
ويأمل العلماء الذين يقفون وراء هذه التقنية الجديدة بأن تُمكّن الأطباء من اتخاذ قرارات سريرية أسرع وأكثر دقة، من خلال جعل المرض العقلي قابلا للقياس بشكل موضوعي مثل الحالات الصحية الجسدية الأخرى.
وقد نجحت ثيميا مؤخرا في استقطاب استثمارات بقيمة 1.1 مليون دولار، للمساعدة في توسيع تجاربها السريرية وجعل المنصة متاحة للمرضى في جميع أنحاء المملكة المتحدة.
وجاءت فكرة ابتكار ثيميا بعد إصابة صديقة مقربة للدكتورة إميليا موليمباكيس بالاكتئاب، حيث فشلت طرق تقييم الاكتئاب التقليدية في تشخيص حالتها ومدى معاناتها، وبلغت ذروتها في النهاية بمحاولة انتحار.
قادت هذه التجربة المريرة الدكتورة موليمباكيس إلى الاستفادة من فهمها لعلم اللغة وعلم الأعصاب الإدراكي وعلم النفس التجريبي، لبناء منصة يمكن أن تكمل وتحل في نهاية المطاف محل طرق التشخيص التقليدية القائمة على الاستبانات لتشخيص الإصابة بمرض الاكتئاب. حيث يوفر برنامج ثيميا للأطباء أداة أسرع وأكثر دقة لتقييم ورصد حالات الاكتئاب الشديد، بحسب ما ذكر التقرير.
الذكاء الاصطناعي يستبدل الطرق القديمة في التشخيص
ابتكرت الدكتورة إميليا موليمباكيس وزميلها الدكتور ستيفانو جوريا -وهو خبير في الذكاء الاصطناعي المتعدد الوسائط- أنشطة ذكية على غرار ألعاب فيديو تفاعلية للمرضى، تختبر العديد من إشارات الاكتئاب المخفية، وتتضمن وصفا لفظيا لمشاهد رسوم متحركة وألعابَ تذكّر للأجسام المتحركة. وبينما يكمل المرضى والمستخدمون الألعاب، يحلل برنامج ثيميا 3 أنواع رئيسية من البيانات:
- الصوت: كيف يتحدث الشخص وما يقوله، بهدف التقاط الإشارات الصوتية واللغوية الاكتئابية.
- الفيديو: مراقبة التعبيرات الدقيقة ونظرة العين التي يمكن أن تساعد في تتبع الحالة المزاجية للشخص.
- المقاييس السلوكية: بما في ذلك أوقات رد الفعل، وحالة الذاكرة، ومعدلات الخطأ التي يمكن أن تساعد في الكشف عن شدة الاكتئاب.
يحدد البرنامج أنماط البيانات التي تشير إلى الاكتئاب، للمساعدة في تحديد التشخيص بشكل أسرع وأكثر دقة، كما سيُظهر ما إذا كانت العلاجات والأدوية تعمل بمرور الوقت.
وتتيح المنصة للأطباء مراقبة المرضى بشكل مستمر وعن بعد في المنزل في الأسابيع التي تفصل بين المواعيد الشخصية، وهو ما سيساعد الأطباء والمرضى على بناء فهم متعمق لحالتهم بمرور الوقت.
وتقوم المنصة بجمع البيانات من آلاف المصابين باضطراب اكتئابي كبير، وتقارنها بمجموعة معيارية غير مصابة، بهدف تدريب الذكاء الاصطناعي على التشخيص بشكل أخلاقي شامل، بعيدا عن التحيزات العرقية والجنسية والعمرية، لجعل تقييماتهم دقيقة وموضوعية قدر الإمكان.
وأقامت “ثيميا” علاقات تعاون وشراكة مع العديد من المعاهد البحثية في المملكة المتحدة، للمساعدة في توسيع نطاق استخدام هذه التكنولوجيا لتشمل الاضطرابات النفسية الأخرى. ويتطلع العلماء بالفعل إلى تطبيق هذه التقنية على حالات تشمل مرض ألزهايمر والخرف ومرض باركنسون والقلق واضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه والتوحد.
الطب النفسي يدخل القرن 21
وقالت الدكتورة إميليا موليمباكيس لموقع “ميد تيك نيوز”: “ولدت ثيميا عندما حاولت صديقة مقربة لي الانتحار. لقد فات أصدقاءها وأطباءها العلامات التي تشير إلى أنها كانت تعاني بشكل خطير، وذلك لأسباب ليس أقلها أن عملية الوصول إلى العلاج المناسب كانت تستند إلى منهجيات قديمة غير مناسبة للتعقيدات والفروق الدقيقة لمرض خطير وغير واضح المعالم مثل الاكتئاب”.
وتضيف موليمباكيس أن “الاكتئاب مشكلة صحية واجتماعية واقتصادية ضخمة ومتنامية باستمرار، وهو سبب رئيسي للإعاقة والانتحار، ويكلف الاقتصاد الوطني المليارات سنويا، وقد زاد فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) من تعقيد المشكلة، وأطلق العنان للمرض حتى أصبح مثل عاصفة تسونامي بسبب الحجر الصحي والعزلة الاجتماعية وفقدان الوظائف والفجيعة والحزن. وفي الفترة من يناير/كانون الثاني إلى مارس/آذار 2021، وجد مكتب الإحصاء الوطني البريطاني أن 21% من البالغين في المملكة المتحدة أبلغوا عن أعراض الاكتئاب، وهو ضعفا ما لوحظ في فترة ما قبل الجائحة”.
وأوضحت موليمباكيس أنه “على الرغم من ذلك، يستخدم الأطباء والعامون النفسيون نفس الاستبانات التشخيصية التي كانت موجودة منذ الستينيات. إن تصنيف مدى شعورك بالحزن على مقياس من 0 إلى 3، لا يكفي ببساطة لالتقاط الفروق الدقيقة للعلامات المبكرة للاكتئاب، ولا ينجح في تتبع تعقيدات المرض العقلي بشكل مستمر، وقبل ثيميا لم يكن للأطباء خيار آخر، وهذا يعني أن العديد من الحالات لم يكن يتم تشخيصها من الأساس، أو يتم تشخيصها بشكل خاطئ، ونتيجة لكل هذا كان الكثير من المرضى ينتظرون سنوات قبل العثور على العلاج المناسب”.
وتؤكد الدكتورة إميليا موليمباكيس أنه “مع ثيميا، فإن الطب النفسي يدخل القرن 21 من خلال منصة تدعم الذكاء الاصطناعي، لمراقبة دقيقة ومستمرة للمرضى. إنه أول نظام تقييم نفسي موضوعي، يجمع بين طبقات متعددة من البيانات الفسيولوجية الغنية لتقييم الاكتئاب والتمييز بين الاضطرابات المتشابهة. وستعمل تقنيتنا على تمكين الأطباء من تقييم الاكتئاب وعلاجه في وقت أقرب، مع السماح للمرضى بتطوير فهم أعمق لحالتهم الخاصة. ومع مرور الوقت، فإن هدفنا هو تقييم وتشخيص جميع اضطرابات الصحة العقلية، وإظهار أن المرض العقلي حقيقي وقابل للقياس بشكل موضوعي، مثله مثل المرض الجسدي، وبالتالي المساعدة أيضا في القضاء على وصمة العار المرتبطة به”.